تعنت نتنياهو- تواطؤ دولي أم ضعف إقليمي يطيل أمد الحرب على غزة؟

يرى العديد من المحللين والباحثين في الشأن الإسرائيلي أن عناد بنيامين نتنياهو بشأن وقف إطلاق النار، والذي قد يؤدي إلى إنهاء الحرب الدائرة في قطاع غزة، ينبع من تخوفه الشديد على مستقبله السياسي المهدد. ويعتقد هؤلاء أن توقف الحرب يعني بشكل حتمي انهيار حكومته الائتلافية وتحمله المسؤولية الكاملة عن الإخفاق الذريع الذي وقع في السابع من أكتوبر الماضي.
على الرغم من أن هذا التحليل يبدو منطقيًا وموضوعيًا في بعض جوانبه، إلا أنه يبقى قاصرًا وغير كافٍ لتفسير استمرار الحرب حتى هذه اللحظة. فمنذ عدة أشهر، أصبحت الحرب عبثية تمامًا من الناحية العسكرية، وأضحت سمتها البارزة هي القتل والتدمير الممنهج، مع تجاوز صارخ للقوانين والأعراف الدولية كافة. بالإضافة إلى ذلك، تتجاهل إسرائيل بشكل كامل جميع القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والأمم المتحدة، وكذلك عن المحاكم الدولية التي تدعو إلى وقف فوري لحرب الإبادة الجماعية التي تُشن ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.
نتنياهو ليس "شمشون"
لقد سعى نتنياهو، من خلال إطالة أمد هذه الحرب المدمرة، إلى تقديم صورة زائفة عن نفسه أمام اليمين المتطرف في إسرائيل، محاولًا إظهار نفسه كرئيس وزراء لا مثيل له، وقائد فذ يمتلك قدرات استثنائية لم يسبقه إليها أحد، أو "شمشون الجبار" القادر وحده على مواجهة المعارضة الإسرائيلية الداخلية، وقادة الجيش والأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى تحدي مجلس الأمن الدولي، والمحاكم الدولية، ومواقف دول الغرب والشرق المطالبة بإنهاء الحرب ووضع حد للمجزرة المستمرة ضد المدنيين الفلسطينيين الأبرياء.
إلا أن تبني هذا التحليل ينطوي على افتراض ضمني بأن جميع هذه الأطراف المذكورة صادقة وجادة في سعيها لوقف الحرب، وأن نتنياهو هو الوحيد الذي يرفض ذلك بعناد، وأنه بالفعل يمتلك كل تلك الإمكانات والمهارات والقدرات الخارقة التي تمكنه من عرقلة جهودهم. وهذا التصور ينطوي على قدر كبير من المبالغة والابتعاد عن الحقيقة.
بيئة سياسية مساندة لا ضاغطة
إن التدقيق المتأني في البيئة السياسية الداخلية والإقليمية والدولية المحيطة بإسرائيل، وما تفرزه من عوامل مؤثرة تسهم في استمرار هذه الحرب، يكشف بوضوح أن نتنياهو لا يتعرض لضغوط حقيقية ومؤثرة لإجباره على وقف الحرب. فهو لا يشعر بالخطر من أي من الأطراف القادرة على ذلك، باستثناء ربما بعض الأصوات داخل الجبهة الداخلية الإسرائيلية. بل إن الغالبية العظمى من هذه الأطراف قدمت، وما زالت تقدم منذ بداية الحرب، كل الدعم والتأييد اللازمين لاستمرارها. وفيما يلي استعراض موجز لهذا الدعم:
- البيئة الداخلية الإسرائيلية لا تمارس ضغوطًا كافية لوقف الحرب: فنتنياهو لا يزال يتمتع بدعم قوي من تحالف حكومي متماسك، يستند إلى أغلبية مريحة من 64 مقعدًا في الكنيست، وهي أغلبية لا تتزعزع. كما أن الجيش والمؤسسات الأمنية ما زالت تعمل وفقًا لتوجيهات الحكومة وتخضع لأوامرها، على الرغم من الضرر البالغ الذي لحق بها جراء تصدي المقاومة الفلسطينية.
أما المعارضة الإسرائيلية فهي ضعيفة ومفككة وغير متفقة على أهداف محددة، مما يجعلها غير قادرة على التأثير بفعالية على مسار نتنياهو وسياساته. كما أن الجمهور الإسرائيلي لا يزال تحركه الضاغط محدودًا، سواء لعقد صفقة تبادل للأسرى تتضمن وقفًا للحرب وانسحابًا من قطاع غزة، ولم يكتسب هذا التحرك الزخم الكافي الذي يمكن أن يجبر نتنياهو وحكومته على الاستجابة لمطالبه حتى الآن.
بل إنه في أكثر من مناسبة، عمد نتنياهو إلى وضع الجمهور الإسرائيلي في مواجهة بعضه البعض، من خلال التمييز بين مؤيدين له ولسياساته ومعارضين لها، وتأجيج الانقسام بينهما. هذه العوامل مجتمعة تجعل نتنياهو، حتى لحظة كتابة هذه السطور، لا يشعر بخطر حقيقي يهدد حكومته واستقرارها. وما لم تحدث تحولات جذرية وفاعلة في هذه المكونات والعوامل المؤثرة، فمن غير المرجح أن يغير نتنياهو من موقفه وسلوكه.
- الولايات المتحدة الأمريكية شريك كامل في العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة منذ اليوم الأول: فعلى الرغم من ظهور بعض التباينات الطفيفة بين موقف الولايات المتحدة كدولة ومؤسسات وبين موقف الإدارة الديمقراطية الحالية، وبالذات فيما يتعلق بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، إلا أن الثابت هو استمرار الدعم المفتوح والشراكة الكاملة عسكريًا وأمنيًا وسياسيًا، وهو ما يمنح نتنياهو الطمأنينة ويضمن له الاستمرار في عدوانه في جميع الظروف والأحوال. ويستند نتنياهو في ذلك إلى موقف المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية الأمريكية، وكذلك إلى دعم اللوبيات المؤيدة لإسرائيل وعلى رأسها منظمة "إيباك".
بالإضافة إلى ذلك، يحظى نتنياهو بدعم مؤسسات وقيادات الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة، التي يقدر البعض عدد أتباعها بما يقارب الـ 70 مليون أمريكي، وكذلك عدد كبير من أركان الإدارة الحالية في البيت الأبيض، وعلى رأسهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان.
ثم قبل ذلك كله وبعده، فإن أنظار نتنياهو والأحزاب اليمينية المتطرفة في إسرائيل تتجه نحو الانتخابات الأمريكية المقررة في نهاية العام، وإمكانية عودة دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة، وهو المعروف بدعمه الأعمى لإسرائيل ومشروعه المتهور لتصفية القضية الفلسطينية، والمعروف بـ "صفقة القرن".
- الدول الأوروبية المركزية والمؤثرة، وبالذات ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، ما زالت تتبنى ذات السياسة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية: فهي منذ عقود طويلة، في الحرب والسلم، تسير في فلك السياسة الأمريكية وتخدم مصالحها. فعلى الرغم من الضغط الشعبي الكبير في العديد من البلدان الأوروبية، والمواقف والتصريحات السياسية المختلفة الصادرة من هناك، إلا أنها لم تتحول إلى فعل سياسي مؤثر، واستمر الدعم لإسرائيل وحربها الشعواء.
- العالم العربي والإسلامي أعاد التأكيد خلال هذه الحرب على عجزه وضعفه وهامشيته: بل زادت بعض أطرافه الأمر سوءًا بمواقفها المخزية من الحرب وأدائها السياسي والإعلامي خلالها. وشهدت هذه الفترة عقد صفقات أسلحة وزيادة التبادل التجاري بين عدد من الدول العربية والإسلامية وإسرائيل، وهو ما يرسل رسائل في غاية السلبية للفلسطينيين ويشكل دعمًا ومساندة مباشرة للاحتلال.
لم يستمر التفاؤل بموقف إسلامي وعربي جاد طويلًا، بعد القمة المشتركة لمنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية التي شكلت لجنة مشتركة من سبعة وزراء خارجية، اعتقد كثيرون أن جهدًا دبلوماسيًا وضغطًا عربيًا وإسلاميًا سينتج عن هذه الخطوة، وأن إسنادًا عربيًا وإسلاميًا قادمًا للفلسطينيين، لكن وبكل أسف الخيبة كانت كبيرة بحجم الاجتماع وبثقل دوله، وبعد أسابيع محدودة لم يعد أحد يسمع عن اللجنة أو عملها.
- فلسطينيًا، وبموازاة الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، أظهرت القيادة السياسية الرسمية: قيادة السلطة و"م ت ف"، انفصالًا عن الواقع وانفصامًا وطنيًا وعجزًا سياسيًا وتخليًا عن المسؤولية التاريخية، وبؤسًا في الأداء وصل إلى حد التماهي مع الاحتلال وروايته.
كل ذلك بجانب استمرار التنسيق الأمني الوثيق مع جيش الاحتلال الذي يرتكب مجازر يومية بحق شعبها ونسائه وأطفاله العزل، والاستمرار في ملاحقة المقاومة الباسلة في الضفة الغربية المحتلة، التي تواجه المستحيل، وتعمل في بيئة مكتظة بالعقبات لتآزر غزة الصامدة، وترتب عليها اعتقال العشرات من الشبان الأبطال واستشهاد أحد عشر فلسطينيًا على أيدي الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة حتى تاريخ كتابة هذا المقال.
وفي ذات الوقت، لم تتمكن القوى الشعبية الفلسطينية، حيثما وجدت، من تفعيل دور الجماهير الفلسطينية وتنظيم تحركها لتشكل ضغطًا حقيقيًا على الاحتلال وداعميه. واتسم سلوك الشعب الفلسطيني خارج قطاع غزة، وكذلك سلوك الشعوب العربية والإسلامية، بالضعف وانعدام التأثير.
نتنياهو ليس بارعًا بل البيئة السياسية متواطئة
أمام هذه الحقائق الماثلة، لا بد من التركيز على العوامل المؤثرة والضاغطة على الاحتلال بمكوناته المختلفة، والاهتمام بها وتفعيلها، بدلًا من انتظار حدوث تغيير في موقف نتنياهو أو تراجعه أمام ضغوط هي في معظمها وهمية أو غير فاعلة.
إن قوة نتنياهو وكيانه أوهن من أن يتمكنا من مواجهة ضغوط جادة من أي من الأطراف الإقليمية والدولية، لو توفرت الإرادة الكافية لدى تلك الأطراف. فغالبية هذه الأطراف لديها من القدرات والأدوات ما يمكنها من لجم هذا العدوان الغاشم، ولكن المؤسف حقًا أن بعض هذه الأطراف، وعلى رأسها الولايات المتحدة، متوافقة تمامًا مع الاحتلال وأهدافه ولا تختلف معه إلا في بعض القضايا التكتيكية المتعلقة بإدارة المعركة. أما البعض الآخر فهو غير مبالٍ ويسيطر على سلوكه النفاق، إذ يستمر في الحديث عن القيم وحقوق الإنسان والتضامن مع الضحايا، في الوقت الذي يستمر فيه بتقديم الدعم السخي للمجرم، وهو ما تفعله الدول الأوروبية المؤثرة.
بينما يستمر عالمنا العربي والإسلامي "الرسمي"، في معظمه، في حالة من التشرذم والضعف والاستسلام للهيمنة الأمريكية، ولا يبدو قادرًا على الاستفادة من هذه اللحظة التاريخية الحاسمة التي يسير فيها العالم نحو التغيّر، وتتشكّل فيها فرصة ذهبية قد لا تتكرر للتحرر من الهيمنة الأمريكية، ومواجهة خطر المشروع الصهيوني الذي هدد -وما زال- مصالح تلك الدول، في ذات الوقت الذي سلب فيه الفلسطينيين وطنهم وحقوقهم التاريخية المشروعة.